الجيش المصري.. وطنية تُحاصرها السياسة وأمل يراهن على الشرفاء

بقلم أ. رضا فهمي
المؤسسة العسكرية المصرية بين التبجيل والتوظيف السياسي: من يملك حق السؤال؟
لطالما ارتبطت المؤسسة العسكرية المصرية في وجدان الشعب بتاريخ من البطولات والتضحيات، بوصفها الحارس الأول لسيادة الدولة، وصاحبة الدور الأبرز في لحظات الانكسار والانتصار. غير أن السنوات الأخيرة فرضت تساؤلات جدية حول المسار الذي سلكته هذه المؤسسة، وحول ما إذا كانت ما تزال تؤدي دورها التاريخي كركيزة أمنية مستقلة ومحترفة، أم أنها باتت أداة في يد النظام تُوظف سياسيًا واقتصاديًا، على حساب دورها الأصلي.
هل تضررت المؤسسة من سياسات السيسي؟
السؤال المطروح اليوم ليس حول مدى تبعية الجيش للرئيس الحالي، بل حول الكلفة التي تدفعها المؤسسة العسكرية نفسها من رصيدها الوطني والمجتمعي بسبب هذه التبعية. لقد أصبح شائعًا في الخطاب السياسي، سواء الرسمي أو المعارض، تصوير الجيش وكأنه “ميدالية في إصبع السيسي”، يُحركها كما يشاء. لكن الواقع أكثر تعقيدًا، فالمؤسسة العسكرية ليست كيانًا متجانسًا، بل هي طبقات ودوائر، بعضها ملتزم بالعقيدة القتالية، وبعضها الآخر جُرّ قسرًا أو طوعًا إلى ميدان السياسة والاقتصاد، ما أفقد المؤسسة الكثير من هيبتها الداخلية والخارجية.
الجيش بين النظام والمعارضة!!
المفارقة أن بعض رموز المعارضة يسهمون، دون قصد، في تعميق الشرخ بين الشعب والجيش، عبر لغة التعميم والاتهام بالجملة، ووصم المؤسسة كلها بالخيانة أو الفساد. هذا النوع من الخطاب لا يخدم إلا النظام، الذي يجد فيه ذريعة لتخويف ضباطه من أي انحياز للشارع، بحجة أن الجميع يهاجمهم ولا يفرّق بين شريف وفاسد.
الحقيقة أن المؤسسة العسكرية، مثل سائر مؤسسات الدولة في زمن الهشاشة، تحتوي الطيف كله: من الفاسدين والمستفيدين، إلى الشرفاء الذين يكتمون غضبهم أو ينتظرون الفرصة المناسبة للإصلاح من الداخل. كما أن السجون العسكرية نفسها تضم بين جدرانها ضباطًا رفضوا الانصياع لمنطق التوظيف السياسي.
هل تدخل الجيش في السياسة يُعد شرفًا؟
حين تدخلت المؤسسة العسكرية في 2013 لترجيح كفة طرف على آخر في صراع سياسي داخلي، أُلبس هذا التدخل لباس “الإنقاذ الوطني”، لكن هل يُعد ذلك ضمن الأدوار التي تفخر بها الجيوش عادة؟ أليست مهام القوات المسلحة محصورة في حماية الحدود والسيادة من التهديدات الخارجية؟ أليس من المفترض أن تظل بمنأى عن الانقسام المجتمعي والسياسي؟ ما حدث لا يمكن تصنيفه باعتباره “نصرًا عسكريًا” بأي مقياس مهني.
وإن قيل إن الدولة كانت مهددة بالسقوط، فإن هذا التبرير لا يصمد كثيرًا أمام تبعات التدخل التي طالت صورة الجيش ذاته، وشوهت العلاقة بينه وبين قطاعات من الشعب، خصوصًا الشباب الذين نشأوا على تقدير المؤسسة، ثم رأوها تنخرط في قمع الاحتجاجات أو تتصدر المشهد الاقتصادي بدل أن تبقى ضامنة لحماية مؤسسات الدولة، لا منافسة لها.
لماذا يُقصي السيسي القيادات العسكرية؟
إذا كانت العلاقة بين السيسي والمؤسسة العسكرية قائمة على الثقة والانسجام، فلماذا تُسجَّل هذه النسبة الكبيرة من التنقلات والإقالات في صفوف قيادات الجيش؟ لماذا لا يُسمح لقائد بالبقاء أكثر من عامين في موقعه؟ هذا التغيّر المستمر يُشير إلى قلق في دوائر القرار، ورغبة في ضبط المؤسسة بالتدوير المفرط الذي يمنع تشكل مراكز ثقل داخلها. وهو ما يعزز الانطباع بأن النظام، رغم استخدامه المفرط لغطاء “العسكرية”، لا يشعر بالأمان المطلق تجاه الجيش ذاته.
مشهد من واقع التحول: من قائد السرية إلى بائع في منفذ تمويني
من تجربتي الشخصية، أستعيد مشهدين لا يغيبان عن الذاكرة. الأول في فترة التجنيد، حين كان قائد السرية يُعامل المجندين بأبوة حازمة، ويغرس فينا احترام الزي العسكري، والاعتزاز بالانتماء للمؤسسة. والثاني حين مررت بعد سنوات على أحد المنافذ التموينية التابعة للقوات المسلحة في منطقة شبرا، حيث رأيت ضابطًا برتبة مقدم يرتدي بدلته الرسمية ويؤدي مهام “بقال” خلف طاولة بيع. عندها قلت في نفسي: “لو رأى القائد (م/أ) هذا المشهد، لربما مات بالسكتة القلبية من هول ما رأى”. هذا التناقض بين صورة الجندي المقاتل، وبين الجندي التاجر، هو ما يُفقد المؤسسة تميزها وخصوصيتها.
نريد جيشًا جاهزًا لا جبهة سياسية
الشعوب لا تطلب من جيوشها أن تخوض الحروب، بل أن تظل على جاهزية عالية لخوضها إذا فرضت. ما نريده هو جيش قادر على الردع، لا سلطة تُستخدم لقمع الخصوم أو إدارة الأسواق. مصر لا تتحمل هزيمة جديدة شبيهة بنكسة 1967، وما نشهده من توسع في الأنشطة الاقتصادية على حساب التدريب القتالي والاستعداد المهني لا يُطمئن.
الختام: دعوة للإنقاذ لا للتخوين
مواجهة السيسي لا ينبغي أن تتحول إلى حالة عدائية مع القوات المسلحة. كما أن احترام الجيش ودوره في حماية الوطن لا يعني التسليم بتغوله السياسي والاقتصادي. وبين هذا وذاك، يجب أن تُفتح مسارات الحوار مع بقية الوطنيين داخل المؤسسة بعد التجريف الكبير الذي تعرضوا له. لقد صار من الواجب الفصل بين طبقة الجنرالات الفاسدين الذين يمثلون عصب وركيزة النظام المستبد وبين عموم المؤسسة العسكرية والذين ينتظر الكثير منهم الخلاص كما ينتظره الشعب المصري المكلوم، فإن حدث هذا التوافق بين الشعب وجيشه فقد التقى الماء على أمر قد قدر.