مدونة ميدان 13 مايو 2025

من الإقصاء إلى الاستدعاء: فرصة التيار الإسلامي في زمن العجز العربي

بقلم: الأستاذ رضا فهمي

في ظل ما تعانيه المنطقة من أزمات سياسية واقتصادية خانقة، وبعد أكثر من عقد على اندلاع الثورات العربية وما تبعها من انتكاسات وثورات مضادة، يعود الحديث عن مستقبل القوى الوطنية التي كانت يومًا في صدارة المشهد، وفي مقدمتها التيار الإسلامي.

لكنّ هذه العودة لا ينبغي النظر إليها كعودة للمنقذ الأوحد، أو الطرف القادر منفردًا على رسم ملامح المرحلة القادمة. بل إنها تأتي في سياق وطني أوسع، تتقاطع فيه مسارات متعددة لقوى وطنية مختلفة، جميعها دفعت أثمانًا في مواجهة الاستبداد، وجميعها تمتلك رصيدًا من الخبرة والدروس التي يجب أن تُستثمر لا أن تُقصى.

في هذا السياق، يبرز التيار الإسلامي كأحد الفاعلين الذين راكموا تجربة غنية، لا تخلو من الأخطاء، لكنها منحتهم قدرًا من النضج والقدرة على التكيف. وإن أي مشروع وطني جامع اليوم، لا يمكن أن يكتمل دون مشاركة كل الأطراف التي آمنت بالتغيير، ودفعت في سبيله، وتبقى على استعداد لمراجعة الذات والانفتاح على شراكة مسؤولة.

تعريف أوسع للتيار الإسلامي

بعد أكثر من عقد على اندلاع الثورات العربية، وما تبعها من انتكاسات وانقلابات وثورات مضادة، يبدو أن عقارب المشهد السياسي تعود من جديد لتمنح التيار الإسلامي فرصة أخرى، هذه المرة بوعي مختلف، وتجربة أكثر نضجًا.

لكن قبل الخوض في الأسباب الموضوعية، لا بد من توضيح المقصود بـ”التيار الإسلامي” في هذا السياق. فغالبًا ما يُطلق هذا المصطلح على الحركات والتنظيمات الإسلامية، سواء كانت جماعات أو أحزاب، نتيجة كثافة الحديث عنها في الإعلام والسياسة. لكن الحقيقة أن التيار الإسلامي، بمفهومه الأصيل، أوسع من ذلك بكثير.

فهو يشمل كل من يتمثل القيم العليا للإسلام في سلوكه ومعاملاته، وكل من يجعل من الدين مرجعية أخلاقية وإنسانية، لا مجرد لافتة سياسية. وكما يقال: “الدين المعاملة”، فإن الانتماء لهذا التيار لا يُقاس بالشعارات أو التنظيمات، بل بما يعكسه الإنسان من صدق وخلق واستقامة.

بل إن كثيرًا ممن لا ينتمون لأي كيان تنظيمي قد يكونون أقرب روحًا وجوهرًا إلى الإسلام من بعض من يرفعون راية تنظيمية. وفي النهاية، فإن الناس “يحاسبون فرادى”، لا بحسب لافتاتهم، بل بما قدموا من عمل وما أضمرته قلوبهم.

من هنا، فإن الحديث عن الإسلاميين هو حديث عن طيف واسع من الناس الذين يمثلون وجدان الأمة، ومخزونها القيمي، وأحد روافدها المجتمعية في الأزمات.

ووفق هذا المفهوم، فقد خاض التيار الإسلامي، ضمن قوى وطنية أخرى، مواجهة طويلة مع الثورة المضادة، دفع خلالها أثمانًا باهظة، لكنه خرج منها أكثر رسوخًا في وجدان قطاع واسع من الجماهير، وأكثر استقلالية عن الإملاءات الدولية، وأكثر نضجًا في مقاربته للسياسة والسلطة.

لقد آن الأوان لنقول بوضوح: لا يعود غياب الإسلاميين عن المشهد اليوم إلى موانع موضوعية، بقدر ما يتعلق بالبيئة السياسية المغلقة، ففشل مشروع الإقصاء لم يسفر عن استقرار ولا نهضة، بل فاقم الانهيار. وفي ظل هذا الواقع، بدأت الجماهير المنهكة تعيد النظر، لا حبًا في تيار بعينه، بل لأن البدائل الأخرى أخفقت في تقديم ما يُقنع أو يُصلح.

درس الهزيمة… والعودة إلى الجذور

منذ نكسة 1967، تسلّمت الأنظمة القومية والعسكرية زمام المبادرة في الصراع مع الكيان الصهيوني. لكنها سرعان ما فقدت شرعيتها تحت وقع الهزيمة. وفي قمة الخرطوم عام 1968، قرر القادة العرب تدشين مرحلة جديدة، يكون الإسلاميون أحد أدواتها، إيمانًا بأنهم قادرون على إعادة شحن الوجدان الشعبي واستنهاض الأمة.

وبالفعل، بدأ مسار جديد من أواخر الستينيات وقد بلغ ذروته في طوفان الأقصى (2023–2025)، حيث لعبت فصائل ذات خلفية إسلامية دورًا بارزًا في المواجهة، جعل الاحتلال يصف التهديد بأنه “وجودي” لأول مرة منذ عقود.

في المقابل، تعاني دول المنطقة من تهديدات وجودية مركبة: داخلية وخارجية، سياسية واقتصادية، قيمية واستراتيجية. ولعلّ هذا ما يجعل من عودة الإسلاميين – كجزء من معادلة وطنية شاملة – خيارًا جديًا لدى شريحة من المواطنين، بل وربما ضرورة إقليمية في بعض السياقات.

لماذا تعود الحاجة للإسلاميين؟

١- سقوط البدائل

الثورة المضادة في كل دول الثورات لم تنتج نموذجًا ناجحًا واحدًا. بل عمّقت الاستبداد والتبعية، ودمرت المؤسسات، وأغرقت المجتمعات في أزمات مركبة. وبالمقارنة، بدا التيار الإسلامي، بكل ما له وما عليه، أقل فشلًا من غيره.

٢- شرعية لا يُزايد عليها أحد

جاء الإسلاميون إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع، وسقطوا بالانقلابات. لم يُسجل عليهم تفريط في قضايا الأمة، ولا ارتهان كامل للخارج، وهو ما جعل استقلالهم السياسي محل تقدير لدى جزء من الشارع.

٣- موقف وطني في اللحظات الحرجة

خلال عدوان 2012 على غزة، كان مجرد تلويح الرئيس المصري المنتخب بالتحرك كافيًا لإجبار الاحتلال على وقف إطلاق النار بعد 4 أيام. مشهد نادر، لكنه كاشف للفارق بين سلطة تمثل إرادة شعبها وأخرى تُدار بالهاتف.

٤- إعادة تقييم في وعي الجماهير

رغم الأخطاء، فإن التجربة السياسية التي خاضها الإسلاميون منحتهم قدرًا من الإدراك لتعقيدات الحكم والتوازنات. وفي ظل تكرار الفشل في كل البدائل، بدأ الناس يعيدون تقييم مواقفهم من هذا التيار، لا باعتباره المنقذ، بل لأنه لم تُتح له فرص حقيقية بعد.

٥- تراجع خطاب “الشيطنة”

بدأت قطاعات من المجتمع — وحتى بعض الدوائر الغربية — تتجاوز حملات التخويف من الإسلاميين. فباتت العودة لفتح المجال أمامهم مطروحة، ولو اضطرارًا لا قناعة.

٦- تنوع التيار وتطوره

لم يعد هناك تيار إسلامي واحد. هناك تعددية فكرية وتنظيمية، ومرونة متزايدة في فهم الواقع وإدارة العلاقات والتحالفات، ما يمنحه قدرة على التكيف لا تتوفر لغيره.

٧- تفوق في أدوات التأثير

بعد تراجع إعلام السلطة، بات للإسلاميين موطئ قدم مؤثر في الإعلام المجتمعي والمنصات الحرة، حيث يروون روايتهم ويوصلون صوتهم بفعالية واضحة.

خاتمة: الفرصة التاريخية

قد تكون عودة الإسلاميين اليوم أقل صخبًا من الأمس، لكنها بلا شك أكثر نضجًا، وأكثر وعيًا بذاتها وبالآخرين. وفي منطقة تقف على مفترق طرق، لم تعد الأنظمة تملك ما تقدمه سوى القمع أو الوعد المؤجل، بينما تبدو الشراكة الوطنية الجامعة — التي لا تُقصي أحدًا ولا تُقدّس أحدًا — هي الأمل الوحيد المتبقي لصياغة مخرج حقيقي من المأزق الراهن.