مدونة ميدان 21 مارس 2025

الإسلاميون الجدد: بين الواقع والبديل

بقلم: الأستاذ رضا فهمي

على مدى عقود، ظل المشهد الإسلامي في مصر محكومًا بأطر تقليدية تحدد طبيعة الخطاب والممارسة السياسية والاجتماعية للحركات الإسلامية. لكن مع الضربات الأمنية التي تعرضت لها هذه الحركات، برزت محاولات لإعادة إنتاج المشهد عبر شخصيات خرجت من عباءة الحركات التقليدية، فيما عُرف بـ”الإكس إخوان”. لكن هذه المحاولات لم تُؤتِ ثمارها، ليظهر جيل جديد، يختلف في التوجهات والأدوات والرؤية، وهو ما يمكن أن نطلق عليه “الإسلاميون الجدد”.

فشل الرهان على “الإكس إخوان”

بداية، لا أفضّل استخدام مصطلح “الإكس إخوان”، إذ أراه يحمل نوعًا من التنميط السلبي لأشخاص أكنّ لهم المحبة والاحترام. وأرى أن معظمهم تعرض لظلم واضح، وأن الخلاف الذي نشأ بينهم وبين التنظيم لم يكن مبررًا، كما أن طريقة التصادم معهم لم تكن موفقة. وأعتقد أن أي سرد نزيه لتلك المرحلة من التجاذب سيمنحهم قدراً كبيراً من الإنصاف. ومع ذلك، فقد أصبح هذا المصطلح متداولًا ويُستخدم للإشارة إليهم دون الحاجة إلى تعريف إضافي.

بعد تفكك الحركات الإسلامية التقليدية، حاولت بعض الجهات توظيف شخصيات من هذه الحركات – “الإكس إخوان” – لملء الفراغ. فتم تنجيمهم “من النجومية” ورُوّج لهم على أنهم قادة رأي وتنويريون إسلاميون، تم استيعابهم وظيفيا في عدد من المؤسسات وظهروا بكثافة في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي. لكن هذه التجربة سرعان ما أثبتت هشاشتها، حيث اتضح أن مجرد السخط على الماضي والتمرد عليه لا يكفي لصناعة بديل حقيقي. فالقدرة على التأثير تتطلب امتلاك أدوات ومهارات ومعرفة عميقة بواقع الناس ومشكلاتهم، وهو ما لم يكن متوفرًا لدى أكثرهم، ما أدى إلى تراجع الرهان عليهم من قبل المؤسسات الداعمة.

نخبة جديدة أكثر واقعية وتأثيرًا

في المقابل، برزت مجموعة أخرى من الشباب، تختلف عن “الإكس إخوان” في أنها لم تكتفِ بالرفض والتمرد، بل عملت على تطوير نفسها بجد واجتهاد، وقدّمت نفسها كبديل دون أن تدّعي ذلك صراحة. كان الفارق الأهم أن هذه النخبة لم تنعزل عن قضايا الناس، بل اقتربت منهم، وطرحت تصورات وحلولًا لقضايا اجتماعية معقدة، مما أكسبها تأثيرًا متزايدًا، خاصة بين الشباب. هذه القدرة على التشخيص والاقتراح، بدلًا من الاكتفاء بالنقد، جعلت “الإسلاميين الجدد” أكثر حضورًا وفاعلية من النماذج السابقة التي ظلت تدور في فلك النقد غير المنتج.

تحرر من الماضي دون قطيعة صدامية

ما يميز هذا التيار الجديد أنه لم يرث الماضي الذي صنعته الحركات الإسلامية التقليدية، ولم يكن شريكًا فيه. بعض أفراده اختار التصادم مع هذا الماضي، محاولًا إزاحته من المشهد، لكن آخرين رأوا أن الصدام لا جدوى منه، وأن الأهم هو الفاعلية والجدارة وكسب ثقة المجتمع. الواقع أثبت أن الرؤية الثانية كانت أكثر نضجًا ونجاحًا، إذ لم ينشغل أصحابها بتصفية الحسابات بقدر ما ركزوا على بناء مشروع جديد يستوعب المتغيرات ويتفاعل معها بمرونة.

في مصر لا يبدو أن “الإسلاميين الجدد” يسعون إلى تقديم أنفسهم كبديل بالمعنى التقليدي، بقدر ما يسعون إلى تشكيل وعي جديد، أكثر واقعية وأقرب إلى هموم الناس. والقبول بهذا التحول قد يكون خطوة ضرورية نحو مستقبل أكثر توازنًا وانفتاحًا، بعيدًا عن ثنائيات الماضي التي لم تعد تصلح لفهم تعقيدات الواقع.

إلى جانب ذلك، يمكن الإشارة إلى العشرات من هؤلاء الشباب المصريين الذين لم يكتفوا بالخطاب النظري، بل انخرطوا في دراسات عليا متخصصة في مجالات حيوية لم تكن ضمن دائرة اهتمام النخب التقليدية، مما أضاف إلى هذه الشريحة مزيدًا من العمق والجودة. بعضهم أسس منصات إعلامية وفكرية مؤثرة، بينما بنى آخرون شبكات علاقات محلية وإقليمية وربما دولية، متجاوزين الأطر التنظيمية التقليدية التي كانت تقيّد الحركة والتأثير. هؤلاء خرجوا عن المألوف، ونجحوا في تأسيس تكتلات فكرية وحركية عابرة للانتماءات التنظيمية، وطوّروا لغة خطاب جديدة تتناسب مع الواقع، دون أن تنهزم له أو تصطدم به بلا جدوى. ما يميزهم أيضًا هو وجود “كيمياء مشتركة” بينهم، تجمع بين فهم التباينات واحترامها، والقدرة على البحث عن المشترك والبناء عليه، وهو ما منحهم مرونة جعلتهم أكثر تأثيرًا في الأوساط الشبابية والمجتمعية.

عبر“الإسلاميون الجدد” بوضوح عن أنهم لا ينطلقون من موقف عدائي تجاه الماضي، ولا يتبرؤون منه بشكل كامل، بل يتعاملون معه بانتقائية واعية، يرون أن بعض جوانبه لا تزال مفيدة وقادرة على الإلهام، وينظرون إلى هذا البعض بتقدير واحترام، بل إن بعضهم يبالغ أحيانًا في هذا التقدير. فهم يدركون أن القطيعة التامة بين الأجيال، وعدم استمرار التواصل الطبيعي بينها، قد يؤدي إلى عزلة غير مبررة، تجعلهم يظهرون وكأنهم “نبت شيطاني” بلا جذور، منقطعًا عن ماضيه ومتنكرًا له. ولأنهم يعون خطورة ذلك، فقد حرصوا على بناء جسور تواصل مع الأجيال السابقة، إدراكًا منهم أن الاحترام المتبادل بين الأجيال هو مفتاح القبول والشرعية الاجتماعية، وأنه كما في الحديث: ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا، بهذا الفهم، استطاعوا تجنب حالة التصادم العقيم، وكسبوا إجماعًا وقبولًا واسعًا، ليس فقط بين الشباب، بل حتى بين كثير من رموز الأجيال السابقة، الذين وجدوا فيهم امتدادًا أكثر نضجًا وانفتاحًا على الواقع.

لا شك أن التطور الهائل في تكنولوجيا الاتصالات ترك بصمته العميقة على هذا الجيل، فلم يعد منغلقًا على نفسه أو محبوسًا داخل حدود الدولة القُطرية، بل نجح في مد جسور التواصل مع نظرائه في مختلف البلدان، مستفيدًا من تجاربهم ومشاركًا في حوارات عابرة للحدود. لم تعد الجغرافيا، أو اللون، أو العرق، أو حتى الاختلاف في المعتقد، تمثل عائقًا أمام التفاعل مع الثقافات المتنوعة. هذا الانفتاح منحهم أفقًا أوسع، وجعلهم أكثر قدرة على استيعاب التحديات وفهم تعقيدات الواقع العالمي، ما يعزز من فرصهم في صناعة مستقبل أكثر توازنًا وانفتاحًا. هؤلاء هم الجيل القادم، وهم من سيحملون شعلة التغيير، ولذلك فإن الرهان عليهم هو الرهان الأجدر بالاهتمام.

في مصر لا يبدو أن “الإسلاميين الجدد” يسعون إلى تقديم أنفسهم كبديل بالمعنى التقليدي، بقدر ما يسعون إلى تشكيل وعي جديد، أكثر واقعية وأقرب إلى هموم الناس. والقبول بهذا التحول قد يكون خطوة ضرورية نحو مستقبل أكثر توازنًا وانفتاحًا، بعيدًا عن ثنائيات الماضي التي لم تعد تصلح لفهم تعقيدات الواقع.

سؤال البديل

مع ظهور هذا الجيل الجديد، لا يزال البعض يكرر السؤال: “من هو البديل؟”، وكأن البديل يجب أن يكون انعكاسًا للماضي أو نسخة مكررة منه. لكن في الواقع، الإصرار على طرح هذا السؤال قد لا يكون بدافع بريء، بل ربما يُراد به عرقلة أي تغيير سلمي وآمن، ودفع الشباب نحو خيارات محفوفة بالمخاطر قد تهدد استقرار المجتمع، وعلى العقلاء ألا يسمحوا بذلك.