حكاية ميدان… لماذا الآن؟

بقلم أ. رضا فهمي
رئيس المكتب السياسي لميدان
ما زلت أذكر تلك الليلة جيدًا، بعد الانقلاب على الرئيس المنتخب محمد مرسي. كنت وقتها في القاهرة، أراقب ما يحدث بحذر. كانت حملات الاعتقال لا تتوقف، تطال كل من يرفع صوته بالحق أو يعارض المسار الجديد. غيرتُ سكني من شمال القاهرة إلى شرقها، لكن ذلك لم يغير من الواقع شيئًا؛ قوات الأمن داهمت البناية المجاورة لي، وشعرت أن الدور قد اقترب مني. لم يكن لدي هاتف، هاتفي كان بحوزة صديق، مغلق طوال اليوم، لا يُفتح إلا مرتين يوميًا ليتحقق من المكالمات والرسائل. وفي إحدى تلك المرات، وصلتني رسالة من صديق يعمل في موقع حساس يقول فيها “ما الذي تنتظره؟ عليك المغادرة فورًا. وإذا احتجت المساعدة، ستجدني بجوارك.”
رحلة المنفى القسري
غادرت البلاد بعد مشاورات مع من تبقّى من قيادة الإخوان الذين كانوا خارج السجون في ذلك الوقت، اتفقنا على أجندة وبرنامج عمل للقيام به في محطتي القادمة، في البداية كنت أفكر في السفر إلى لندن، لكن شاءت الأقدار أن أستقر في إسطنبول. ظننت للوهلة الأولى أن الغيبة لن تطول، أشهر قليلة وربما عام على الأغلب بعدها سأعود. لكن خاب ظني وأصبحنا في حالة من عدم اليقين حول موعد العودة طال بنا المقام في المنفى القسري ليس بسبب قوة النظام، بل لأن الصف المناهض للإنقلاب لم يكن على مستوى الحدث – كان ضعيفًا، متفرقًا، بلا رؤية واضحة مع غياب الإرادة الحقيقية عند أغلب رموزه وقياداته..
صدمة الخذلان وقرار الانفصال
شعرت بالخذلان، لم يكن هذا ما حلمنا به. لكن سرعان ما انخرطنا في عمل جاد حاولنا ومعي عدد من خيرة الشباب المصري من خلاله سد بعض الثغرات، لكنّ الضربات من الداخل كانت أوجع من تلك التي من الخارج. بعدها، اتخذت قراري الصعب: أن أترك تنظيم الإخوان، رغم أنني عشت فيه سنوات طويلة من عمري، وأعتز بكل لحظة قضيتها بينهم، وكل تجربة شكلت وعيي وفهمي. لم يكن خروجي غضبا ولا نكاية، بل عن قناعة تامة أن الجماعة – رغم ما قدمته – لم تعد قادرة في هذه اللحظة على إلهام الأجيال الجديدة ولا قيادة التغيير في مصر. كانت حالتها أشبه بجسد أصابه التيبس، بالكاد يتحرك. ومصر لا تحتمل هذا الجمود، بل تحتاج إلى حركة جديدة، نابضة بالحياة، قادرة على جمع الطاقات وبث الأمل من جديد، كان هذا بمثابة تقديري السياسي في حينه وما زلت أعتقد أنه كان صوابا، لكن هذا لا يمنعني القول بأن الجماعة مؤخرا صارت أفضل من ذي قبل، وقناعتي أنه ما من مخلص صادق إلا ويرجو لها الخير ويتمنى أن تنهض من كبوتها لأن في تعافيها خير لمصر وللأمة جمعاء.
محاولات الخارج واعتزال الساحة
ومع الوقت، ظهرت عدة مبادرات ومحاولات في الخارج: محاولة إحياء تحالف دعم الشرعية، وثيقة بروكسيل، المجلس الثوري، وثيقة “وطن للجميع”… وكلها كانت جهود مقدرة في حينه لكن أغلبها لم تقنع الشارع وخاصة شريحة الشباب، بعضهم قرأها على أنها رسائل لإثبات الوجود لا أكثر.
ولادة فكرة ميدان
في 2017، قررت أن أبتعد تمامًا. عشت في عزلة اختيارية، أبحث عن إجابة لسؤال واحد: ما العمل؟ كنت أقضي ساعات طويلة في النقاشات الثنائية أو في مجموعات صغيرة لا تتعدى سبعة أفراد. ثم جاءت 2019. كانت الدعوة من شباب أعتز بهم: هم العمود الفقري الآن لمشروع ميدان، هؤلاء الشباب أعادوني للحياة مرة أخرى، اجتمعنا وقلنا بصوت واحد: لا بد من بداية جديدة.
منصة لا تنظيم
كتبنا وثيقة سياسية، ووضعنا رؤية ورسالة وخطة عمل. كنا نعلم أننا نأتي من خلفيات متباينة: إخوان، سلفيون، حازمون، مصر القوية… لكن هذا ما أعطى المحاولة زخما وقوة. أردنا أن نكون منصة، لا تنظيمًا، ساحة يقف عليها كل أبناء التيار الإسلامي الوسطي، من مختلف المشارب. اخترنا أن يكون اسم هذا الجهد “ميدان”؛ ليس فقط تيمّنًا بميدان التحرير، بل لأنه منصة مفتوحة لكل من يحمل هذا الهم، ويريد لهذا البلد أن ينهض.
العمل قبل الإعلان
قلنا منذ البداية: لا نعلن عن أنفسنا إلا حين نصنع شيئًا يستحق أن يُروى. لم نبحث عن اللافتة ولا الاسم، بل عن العمل. ثلاث سنوات من البناء الهادئ، حتى بدأنا نخرج إلى العلن. واليوم، بعد مضي ست سنوات، أصبحت “ميدان” جزءًا من الجماعة الوطنية المصرية في الخارج، نعتز بانتمائنا للحركة الإسلامية، لكننا أيضًا نفخر بانتمائنا لمصر، الوطن الجامع، ونؤمن بأننا جزء من فضاء عربي وإسلامي أكبر.
دعوة للوحدة
ولأن مصر أكبر من أي فصيل، وأثقل من أي تنظيم، فإننا نؤمن بأن الوقت قد حان لنطرح دعوة واضحة: اتركوا التنازع والتشاحن جانبًا، ولنتعاون على ما هو مشترك بيننا لإنجاز التغيير المنشود. فليس هناك أحد بمفرده قادر على حمل هذا العبء. التغيير يحتاج إلى تكاتف الجميع من كل التيارات. ولا يجوز أن تحبسنا خلافات الماضي عن فرص المستقبل.
“ميدان” ليس حركة بديلة، ولا راية مزاحمة، بل دعوة مفتوحة لأبناء مصر، وخصوصًا أبناء التيار الإسلامي الوسطي، أن يلتقوا من جديد على ما جمعهم أول مرة: حب هذا البلد، والرغبة في إنقاذه، والإيمان بأن الحرية والعدالة ليست أحلامًا بعيدة بل حقوق واجبة.
مؤتمر شباب التغيير
في عام 2021، خضنا أول اختبار حقيقي على طريق الفعل والتأثير، حين نظمنا مؤتمرنا الأول: “مؤتمر شباب التغيير”. لم يكن مؤتمرًا تقليديًا يُقام لمجرد التقاط الصور أو إطلاق الكلمات الرنانة. لا، لم نرده مساحة للتنفيس أو لتفريغ الغضب على المنابر. بل كنا نريده فضاءً حقيقيًا يجمع الشباب الفاعل من دول الربيع العربي، فرصة لتبادل التجارب والخبرات، والتعرف على واقع كل قطر على حدة، ثم ربط هذا الواقع بخيط ناظم يعبّر عن تطلعات جيل بأكمله.
ومن رحم هذا المؤتمر، وُلدت “تنسيقيّة شباب التغيير”، التي شكلت إطارًا تنسيقيًا واسعًا، ما زلنا إلى اليوم نجني ثماره ونرى أثره في الميادين والمواقف.
الانطلاق الحقيقي لمشروع ميدان
كان هذا المؤتمر بمثابة قصّ الشريط العملي للإعلان عن مشروع “ميدان” كمبادرة حقيقية تتجاوز فكرة البيانات أو الحشود العابرة. ومنذ ذلك الحين، كنا دائمًا في الموعد: إلى جانب شعبنا المصري أولاً، في الموعد مع أمتنا في قضاياها المصيرية، من غزة إلى القدس، ومن سوريا إلى ليبيا، ومن اليمن إلى السودان، لم نبخل بجهد، ولم نتخلف عن موقف. وقفنا مع إخوتنا الأتراك في كارثة الزلزال، وواكبنا آلام الشعوب وآمالها في كل ساحة عربية ملتهبة. كنا نؤمن وما زلنا أن أمتنا جسد واحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
كلمة افتتاحية لم يغب عنها ما في الوجدان
وفي الكلمة الافتتاحية لهذا المؤتمر، قلت كلاما ما زلت أؤمن به إلى اليوم ومن أي يوم مضى قلت نصا:
“أكثر من عشر سنوات مرّت على انطلاق ثورات الربيع العربي، لم تأتِ فيها الرياح بما اشتهت السفن. تعقّدت الأمور، وتلبدت الغيوم، وانهزمت الإرادات، واضطربت الأحلام، حتى ظنّ الناس بالله الظنونا. تغيّرت أشياء كثيرة، لكن الشيء الوحيد الذي لم يتغير هو إيمان الشعوب بعدالة مطالبها ونُبل مقاصدها. لم تكفر بثورتها، ولم تلقِ اللوم عليها، إلا على استحياء حين يشتد الضجر من توحش الثورة المضادة.
لقد تحوّلت الثورة في وجدان الجماهير من وسيلة تغيير إلى حلمٍ تتشبث به، وتدفع من أجله التضحيات. لم تُخِفهم نهاية الجولة الأولى في سوريا أو مصر أو ليبيا أو اليمن، ولا حتى الانتكاسة المؤلمة في تونس، بل رأينا شعوبًا جديدة تنتفض في العراق والجزائر ولبنان، ثم السودان. وها هم التونسيون والسودانيون، رغم كل ما رأوه من كوارث الثورة المضادة، يخرجون مرة أخرى إلى الشوارع، في رسالة واضحة: لا للذل، لا للاستسلام.”
اليقين في طريق التغيير
وها نحن اليوم، وقد رأينا ما جرى في طوفان الأقصى، ورأينا بأعيينا سقوط بشار في سوريا، ما جعلنا نزداد يقينًا بأننا لم نكن نحلم أو نهذي عندما قلنا قبل ثلاث سنوات إن هذه اللحظة آتية. ومصرنا الحبيبة، ليست ببعيدة عن هذا الركب، بل إنها تمضي في طريقها للحاق بشقيقتها سوريا، وإن غدًا لناظره قريب.
هذه حكايتنا… وهي بداية لفصل جديد.