مدونة ميدان 5 أكتوبر 2025

لحظة النجاة الكبرى: بين خيانة الأنظمة وصحوة الشعوب

زمن لا يشبه ما قبله

تمر أمتنا اليوم بواحدة من أكثر اللحظات حرجًا في تاريخها الحديث، لحظة فارقة لا تشبه ما سبقها من مراحل الانحطاط والانكسار التي حفلت بها كتب التاريخ. لقد اعتدنا قراءة تلك الصفحات المؤلمة ومحاولة تخيل ملامحها، لكن الواقع الراهن تجاوز حدود الخيال وأعاد تعريف مفهوم الأزمةفي أبعاده السياسية والأخلاقية والحضارية. ما نعيشه ليس مجرد تكرار لدورات التاريخ، بل هو مشهد غير مسبوق من الانكشاف والتواطؤ والانهيار القيمي.

حكومات الغربوشعوب الغرب: خصومة في المواقف

توحدت حكومات الغرب، رغم تباين سياساتها وأيديولوجياتها، على موقف واحد في دعم المشروع الصهيوني الاستعماري، فوفرت له السلاح والغطاء السياسي والدبلوماسي، وبررت له جرائمه في حق المدنيين الفلسطينيين والعرب. هذا الانحياز لم يعد مجرد سياسة خارجية بل أصبح جزءا من بنية التفكير الاستراتيجي الغربي تجاه منطقتنا.

في الوقت نفسه، فإن العدالة تقتضي التمييز بين تلك الحكومات التي تخلت عن قيمها الإنسانية، وبين قطاعات واسعة من شعوب الغرب التي خرجت إلى الشوارع دفاعًا عن المظلومين، ورفعت صوتها رفضا لجرائم الاحتلال، وأعلنت تضامنها مع من يُقتلون ويُهجرون باسمأمن إسرائيل“. هذا الوعي الشعبي، رغم كل محاولات التضليل الإعلامي، يؤكد أن معركتنا ليست مع الشعوب، بل مع أنظمة فقدت بوصلتها الأخلاقية وتحولت إلى أدوات في خدمة مشروع استعماري قديم بثوب جديد.

ومع ذلك، فإن الصورة ليست قاتمة تمامًا على مستوى الحكومات الغربية نفسها. فقد برزت استثناءات مهمة، تمثلت في مواقف دول أوروبية مثل إسبانيا وإيرلندا وبلجيكا التي طالبت بوقف فوري للعدوان، وعلّقت بعض أشكال التعاون، ودفعت نحو محاسبة الاحتلال دوليًا. كما اتخذت عدة حكومات في أمريكا اللاتينية – بينها بوليفيا وتشيلي وكولومبيا – خطوات أكثر حدة، كطرد السفراء أو سحبهم احتجاجًا على المجازر في غزة. هذه المواقف، وإن كانت محدودة، تؤكد أن هناك من لا يزال يتمسك بقيم العدالة ويرفض تمرير جرائم الاحتلال دون تبعات

من خيانة سرّية إلى عمالة علنية

خيانة الأوطان ليست جديدة على تاريخنا، فقد عرفنا باعة الأرض والعرض منذ قرون، غير أن خيانتهم كانت في الغالب تجري في الخفاء، وراء ستار من التواطؤ الصامت أو الاتفاقات السرية.

أما اليوم، فقد انتقلت الخيانة من السر إلى العلن، ومن الحذر إلى الفجور. أنظمة عربية وإسلامية صارت تنظر إلى مقاومة المحتل باعتبارهاتهديدًا للاستقرار، وترى في رفض الظلم تصلبًا في الرأي، وتصف الدفاع عن الأرض بـالتصعيد غير المبرر“. ووفق هذا المنطق المقلوب، تُحمّل المقاومة مسؤولية القتل والتشريد والتجويع، وكأن الاحتلال الذي اغتصب الأرض وسفك الدماء لم يكن السبب الأصلي لكل هذا الخراب.، اللافت هنا إن المعتدي نفسه، رغم بطشه وجبروته، كان  يبدي قدرًا من الاحترام للمقاوم الذي يثبت في وجهه بإمكانات بسيطة وإرادة لا تلين.

تحالف الوهن والخوف

المشهد أكثر قتامة حين نرى أن بعض من خرجوا من رحم الحركات الإسلاميةالتي طالما بشرت بالتحرر والكرامةيقفون اليوم في الصف نفسه مع سدنةاتفاقية أبراهاموأبناءكامب ديفيد، بل ومع من تنكروا لتراث الإصلاح والتجديد الذي مثّله محمد بن عبد الوهاب، فانقلبوا على المبادئ التي حملوها بالأمس، ليصبحوا أدوات في يد المشروع الصهيوأمريكي.

لقد جمعهم الخوف والوهن في خندق واحد، وامتزجوا في خلاط الخيانةليقدموا مشهدًا عبثيًا مخزيًا: أنظمة تتحدث عن السلام بينما تصمت عن المجازر، وتدّعي الاستقرار بينما تموّل أدوات القتل، وتتباهى بالعلاقات الدبلوماسية بينما تُغلق أبوابها أمام الضحايا.

سقوط الأقنعة عن النخب

إذا كان موقف الأنظمة متوقعا في ظل تاريخ طويل من التبعية، فإن ما لا يمكن تبريره هو سقوط بعض النخب والمثقفين سقوطا مدويًا. شخصيات كانت تُعدّ صوت الضمير الحي، باتت اليوم تطالب المقاومة بقبولصفقات القرنوتسليم سلاحها بحجة إمكانية تعويضه لاحقا! وكأن الاستسلام خيار سياسي مشروع، وكأن الذهاب إلى الذبح طواعية يمكن أن يُسمى واقعية سياسية“.

وفي جانب آخر، هناك فئة من الكُتّاب والباحثين تدرك تماما خطورة اللحظة، لكنها تختار الهروب إلى الأمام. تكتب عن قضايا هامشية، وتتجاهل الحدث المركزي الذي يهز المنطقة أو تتناوله شزرا، كل ذلك حفاظا على مصالحها ومكاسبها. هؤلاء يظنون أنهم يخدعون الجمهور، لكن الحقيقة أنهم مكشوفون أمام وعي شعوب لم تعد تنطلي عليها الأقنعة..

لحظة الاختبار التاريخي

نحن أمام لحظة اختبار لا تحتمل التردد. إنها لحظة تخص الأمة بأسرها، لا النخب وحدها ولا الحركات وحدها. كل فرد، وكل جماعة، وكل مؤسسة معنية بهذه المعركة الوجودية. من يملك القدرة على الفعل ثم يقعد عنها، فقد خسر الدنيا والآخرة. ومن لا يملك إلا الكلمة فعليه أن يقولها، ومن لا يملك إلا الإنكار بقلبه فلا يتخلَّ عنه.

هذه ليست معركة دينية فحسب، ولا قضية سياسية فقط، بل هي لحظة وطنية وتاريخية فاصلة ستُذكر في كتب التاريخ. من يقف فيها في صف الحق سيسجل اسمه في صفحات المجد، ومن يختبئ وراء الصمت سيجد نفسه في مزبلة التاريخ.

النجاة لمن يختار الفعل

التاريخ لا يرحم المتخاذلين، ولا يغفر للصامتين، ولا يكتب المجد إلا لمن يقف في وجه الطغيان. في هذه اللحظة التي تتقاطع فيها الخيانة مع الوعي، وتتصارع فيها الأنظمة العميلة مع إرادة الشعوب، سيكون المستقبل لأولئك الذين اختاروا الكلمة والموقف والفعل.

قد تكون هذه اللحظة سبب نجاتنا في الدنيا قبل أن تكون سببًا لنجاتنا في الآخرة. ولعلها اللحظة التي تعيد للأمة بوصلتها، وتكتب بداية صفحة جديدة عنوانها: “لن تُكسر أمة تقاوم، ولن تُهزم قضية يؤمن بها الأحرار.”