مدونة ميدان 17 مايو 2025

أقيسة فاسدة ومأساة علمية!

بقلم م. محمد إلهامي _ عضو المكتب السياسي لميدان

لله در ابن خلدون! له فصل بديع في مقدمته عن أن العلماء أبعد الناس عن السياسة ومذاهبها، كثيرا ما يخطر ببالي كلما قرأت بعض الترهات للمنتسبين إلى المشيخة، الذين يشيرون إلى أنفسهم بالغوص في الدقائق والتترع من الأصول والإحكام في القياس والإتقان في المنطق!!

وقد كثر هؤلاء منذ نزل ترمب بلادنا، وأدى له حكامنا الجزية وهم صاغرون، بل وهم يطربون، يرجون رحمته ويخشون عذابه!! وتسعدهم منه اللفتة والإشارة والكلمة المعسولة التي يعرفون ونعرف ويعرف الناس كلهم أنها وسيلة استخلاص آلاف المليارات.. وما هذا العلج البرتقالي إلا تاجر، فما عليه لو قال كلمة -بل ألف كلمة- ثم رجع بعدها بألف مليار من الدولارات أو يزيد!!

دعنا الآن من حكامنا وسيدهم العلج البرتقالي.. وابق في نكبتنا في أولئك المنتسبين إلى العلم..

قياسات ظالمة ومقارنات مدمرة

فلقد اندفع عدد منهم يريد أن يُلزم الناس بتسوية المواقف بين أحمد الشرع وبين غيره من الملوك.. فإما عذروهم جميعا ورأوا أن مواقفهم سياسة شرعية، وإما خونوهم جميعا ورأوا أن مواقفهم خيانة!!

وذا قياسٌ لا يكاد يتفق فيه وجهٌ واحدٌ حتى يصير سبيلا للتسوية بينه وبينهم!!..

وهذا أمرٌ لا علاقة له بتأييد أحمد الشرع أو بالإنكار عليه.. إنما الكلام الآن في باب العلم الذي يُنتهك ويُسفح على يد المنتسبين إليه..

فلو كان هذا هو العلم وهؤلاء أهله فوالله ما كان للبشر من حاجة في تعلم شيء ولا في فهمه.. فلئن كانت ظواهر الأمر تدل على بواطنها، ولئن كان القياس ينعقد بأقل المشابهة، وإن كان الحكم يشمل الجميع بأقل صورة.. فهذا أمر يعرفه عوام الناس بل تعرفه البهائم العجماء!!

بل على العكس.. لو ظل الإنسان بغير علم -ينتج هذا النوع من النظر- لكان خيرا له من تعلمه.. فإن العامي الجاهل الذي لم يقرأ نصا لا في الأصول ولا في القياس ولا في الشريعة أقدر على التفريق بين المتشابهات في حياته من هؤلاء الذين يزعمون أنهم تعلموا، ثم تراهم يجمعون بينها!!

وهذه المفارقة هي التي ذكرها ابن خلدون، من أن كثيرا من هؤلاء “العلماء” لما تمرنت أذهانهم على تجريد القواعد الكلية من الجزئيات، ثم صارت تُنْزِل الكليات على الجزئيات المعروضة دون انتباه لما فيها من الفوارق.. هؤلاء صاروا أدنى مرتبة من العامي الذي يدرك هذه المفارقات بسهولة وبغير عناء لأن ذهنه لم يتعنّ ولم يتدرب أصلا على تجريد كليات ثم تنزيلها.. فبقيت المتفرقات عنده على حالها لم تأت قاعدة كلية تجرها لتضعها إلى جوار ما يشابهها ثم تحشرها تحتها في تصنيف واحد!

الفوارق بين المواقف والسياسيين

من في عموم الناس، ممن له أدنى مسكة من عقل، يشبه رجلا ليس له في سدة الحكم شهورا بأقوام ممكنين في بلادهم يحكمونها منذ عشر سنين أو عشرين سنة؟!!

بل هؤلاء الممكنون أنفسهم لا يشتبهون.. ومهما أنكرنا على أحد سياساته ومواقف له، لكن: من ذا الذي يمكنه أن يسوي بين رجل كأردوغان ورجل كابن زايد؟!! أو من يسوي رجلا كتميم برجل كعبد الله بن الحسين؟!!..

كاد العقل يطير.. إذ سيأتي من يسوي يوما ما بين أبي إبراهيم أو أبي العبد وبين محمود عباس، إذ تشابها في مهادنة العدو يوما ما!!

ولستُ أتحدث هنا عن قوم منافقين، قد عُرف نفاقهم.. هؤلاء أدنى وأحط من أن أنهض للرد عليهم.. إنما يحرقني ويكويني حقا أن يقول القائل بمثل هذا ممن طورد وهاجر، إلا أن بعض العصبية المشيخية أو المذهبية أو العدوات الشخصية لا تزال تعلق به!!

الدروس من التجارب الإسلامية المعاصرة

قد علم الله تعالى، وقد كتبتُ هذا قبل الثورة المصرية أصلا، أني كنت أتمنى أن يأتي لمصر حاكم من الإخوان، فيقبض على زمام البلد حقا، حتى لو عجز عن رفع حصار غزة، وحتى لو أمَّن مصالح إسرائيل والأمريكان في مصر.. فإن ذلك خير من بقاء واستمرار حكم حسني مبارك!!..

قد علم الله أني قلت هذا وكتبته منذ ذلك الوقت (ولولا أن حساب الفيس القديم قد حُذِف لاجتهدت أن آتي بنص الكلام ورابطه).. ولا أزال عليه الآن، فلو قد استطاع أحد أن يحكم مصر، ويكون باختيار حر من أهلها، أو يكون بعد كفاح صلب قد وصل به (لم تأتِ به دبابة الأجنبي ولا مؤامرات الخارج)، لهو خير من استمرار السيسي عدو الله هذا من كل وجه!

إن الأمة إذا حكمها أهلها وأبناؤها حقا استطاعت أن تغير الحال، لو لم يستطع أبناؤها أن يفعلوا ذلك في أول سنة أو في خامس سنة، لاستطاعوا أن يفعلوها بعد ذلك.. ولئن لم يستطيعوا فإن ما يحدث في المجتمع من انتشار الإسلام ومن الحركة الطبيعية للأمة الحرة لهو خير في كل وجه من بقائها تحت أمثال بشار والسيسي مكبلة مقيدة مقهورة عاجزة يائسة محطمة!!

الفارق ضخم بين أن يكون حاكم الأمة من أبنائها ثم هو يعجز عن المعسور، ويجتهد في المداراة وتسكين الأعداء وبذل الممكن لتوقي الأخطار.. وبين أن يكون حاكمها صنيعة أعدائها فهو مجتهد في إرضاء العدو وتكبيل الأمة وقهرها!!

وهذا الفارق رغم كونه ضخما إلا أنه قد يشتبه على من لا يهتم بشأن السياسة ولا يفهمها.. فقد تتشابه تصرفات وسياسات، ولكن لا يمكن فهمها إلا بقرائن الأحوال وتوسيع النظر وسبر الحقائق!!

ونظير هذا الفارق في الساسة، فارق آخر في المنتسبين إلى العلم والمشيخة، ففيهم من يُنكر لأنه مخلص قد اشتبه عليه الأمر ويخشى أن تتكرر تجربة سوداء أخرى، وفيهم من يُنكر لأنه لم يُعْطَ -فإن أعطوا منها رضوا، وإن لم يعطوا إذا هم يسخطون-، وفيهم من يُنكر لأنه منافق عاملٌ في بلاط آخرين فهو وسيلتهم وصنيعتهم ولسانهم يمدح إن رضوا ويقدح إن سخطوا!!.. ومن حُسْن السياسة والفهم التفريق بين هؤلاء أيضا!

إن أي تسوية بين أحمد الشرع وبين غيره من هؤلاء إنما تشير إلى ضعف عقل القائل وقلة فهمه.. وقد يجتمع قوم على لحم الخنزير فبعضهم معذور مأجور وبعضهم آثم مأزور.. إن هذا المثال قد تسمعه كثيرا في ساحة النظر، لكن قلَّ أن ترى من يحسن تطبيقه عمليا في واقع الحياة المعقدة هذه!!

ألا رحم الله القائل:

يا رجال العلم يا ملح البلد .. من يصلح الملحَ إذا الملحُ فسد؟!

إن أهل العلم هم طليعة الأمة، وعليهم مسؤولية ضخمة في فهم هذا الواقع ليحسنوا تنزيل الشرع عليه، وليحسنوا المقارنة والمقايسة في الأمور.. لا نريد أن يكون أهل العلم نكبتنا فوق نكبتنا، ومصيبتنا وراء مصيبتنا..

وأنا بعد ذلك كله لا أضمن الشرع ولا غيره، بل أنا لا أضمن نفسي.. ولكن إذا نزلنا بالسياط على تجاربنا الإسلامية الوليدة حتى نخمدها ونهدمها بأيدينا، فلماذا نبكي إذن على الفشل؟؟..

هل يسرنا أن تنتهي تجاربنا كلها بالإخفاق والسجون والمقابر.. هل يسرنا أن نترحم على قادتنا ورموزنا ونبكي عليهم أسرى أو قتلى من أن نتحمل منهم ولهم ما يدل ألف شاهد وشاهد أنه مضطر إليه مكره عليه؟!!

في الصدر كلام كثير لا أحسن قوله.. ولكن أسأل الله أن يبلغ عني وأن يفتح القلوب لحمل هذا الكلام على أحسن محامله!