قصة مصر الحزينة

بقلم الأستاذ: محمد إلهامي
قصة مصر الحزينة..
في كل لحظة فارقة من لحظات الأمة كانت الأبصار تتطلع إلى مصر..
الثورة التي اشتعلت في تونس ما كان لها أن تتمدد لولا أن الشرارة اشتعلت في مصر.. في أسبوع سقوط مبارك اشتعلت أربع ثورات في أماكن أخرى..
وأما بقية البلاد فقد بحثت عن شيء ينجيها من الثورة.. فمنهم من أغدق الأموال على شعبه (وقال إنها مكرمة بمناسبة شفائه)، ومنهم من سمح بانتخابات نزيهة تأتي بالإسلاميين ليمتصّ بهم موجة الثورة.. ومنهم.. ومنهم..
ولما وقع الانقلاب العسكري في مصر.. أصيبت كل هذه الثورات بضربة قاضية.. بل وأصيبت محاولات التحرر كلها بضربة قاضية..
ماذا لو حكم مرسي؟
إن تخيل التاريخ لو أن #مرسي تمكن من الحكم في مصر، كان سيعني وجها جديدا لهذه المنطقة، وتاريخا آخر غير الذي عرفناه!
حتى أهل مصر أنفسهم.. ما كان يمكن لقائد جاء بانتخابات تحرسها قوى ثورية أن يودي بهم إلى المهالك والمهاوي التي ساقهم إليها قائد دموي جاء بانقلاب عسكري مدعوم بالصهيونية والصليبية وأنظمة الطغيان العربية..
الكلام كثير.. لا حاجة لإعادته!
ثلاث لحظات مفصلية
لكن أكثر اللحظات التي شعر الجميع فيها بالفارق كانت ثلاثة: الطوفان المبارك في غزة.. الحرب التي اشتعلت في السودان.. انتصار الثورة السورية العظيمة..
لا سيما غزة.. غزة التي تُباد أمام أعين الجميع، ودور النظام المصري في إبادتها ليس أقل من دور الصهاينة أبدا.. وأستطيع أن آتي من كلام الصهاينة أنفسهم بما يؤكد هذا.. فالأمر مشهور غير مغمور، ولا يتشوش إلا عند من يلقي سمعه لإعلام النظام المصري وذبابه الإلكتروني!
ماذا أريد أن أقول؟!
حسنا.. إن كان من شيء يمكن للمصريين أن يفعلوه إنقاذا لأنفسهم وإنقاذا لأمتهم.. فهو أن يتغير الحال في مصر..
وتغير الحال في مصر ليس له في وضعنا الحالي إلا مسار من مساريْن:
- أن يحدث التغيير ولا أحد مستعدا له.. فتدخل البلاد في فوضى وارتباك وأزمة شديدة.. فتطول هذه الفترة وتكون نتائجها كارثية!
- أن يحدث هذا التغيير، وقد استعد له بعض هؤلاء المصريين فأجمعوا أمرهم واجتهدوا ما وسعهم الجهد في تنظيم صفوفهم وإنارة وسائل ومسارات شعبية.. ستحدث الفوضى والأزمة لا شك.. ولكن هذا الاستعداد المسبق سيؤدي إلى عبور فترة الفوضى والأزمة بأقل قدر من الخسائر في أقل وقت ممكن!
سيأتيني سؤال: ولماذا لم تضع احتمال ألا يحدث التغيير أصلا؟!
والجواب: إني وإن كنتُ محسوبا أحيانا على جانب الواقعيين (أو المتشائمين.. صفها كما تحب) إلا أن الوضع الحالي في مصر يشهد بأنه غير قابل للاستمرار.. البلد منذ فترة كأنها ساحة بنزين تنتظر الشرارة.. وهذا النظام قد تركب بحيث يعطي الفرصة الدائمة لاشتعال هذه الشرارة..
نظام لا يمكن إصلاحه
يمكن قول كلام كثير في هذا الباب.. سيطول معه المنشور جدا وسندخل في دهاليز تخرجنا عن مقصوده.. لكن الخلاصة أن دائرة المنتفعين من هذا النظام تقل وتتضاءل باطراد، كما أن دائرة الساخطين تتسع وتتكاثر باطراد أيضا.. وسياسات النظام قد جعلت هذه المتوالية مسألة بِنْيَويَّة، بمعنى أنها مسألة من طبيعة النظام ومعادلات تفاعله.. أي أنها مسألة لا يمكن إيقافها ولا تعطيلها!
لا يستطيع النظام تغيير سلوكه الآن، حتى وإن أدرك أن سلوكه هذا يودي به في النهاية.. لأنها صارت طبيعة له وتركيبة قائمة فيه.. فإما أن يحاول تغييرها فيتفكك من تلقاء نفسه، وأما أن يبقيها كما هي لتسوقه إلى هلاكه.. وطبيعة الأنظمة في هذه اللحظة أنها تبقيها كما هي وتستعمل المخدرات والمسكنات.. والنظام في مصر يعيش فعلا على هذه المسكنات منذ أعوام.. ولولا ما يأتيه من أموال المساعدات الخارجية لعجز عن دفع الرواتب منذ أمد.. وهذه الزيارة الخليجية الأخيرة كانت زيارة تسول صريح!
ولأن طبيعة النظام قد تركبت على شخص واحد.. وهذا الشخص قد صرّح بلسانه أنه لن يقوم من على الكرسي إلا إذا جرى التخلص منه!
ولأن نفس هذا الشخص قد كبت وكتم وقمع كل وسائل التغيير التي يمكن تلمسها، فهو قد أجبر الجميع على أن يعملوا تحت الأرض.. فلذلك لا أحد يمكنه أن يتوقع: كيف ولا متى ولا ما هي الشرارة التي تقع على هذا التفاعل فتحيله نارا مشتعلة!
ضرورة التحرك
تلك لحظة يفكر فيها العقلاء في ضرورة أن يكون ثمة من يعمل (في الخفاء إن كان في مصر، وفي العلن إن كان خارجها) في محاولة صد الكارثة التي تسير إليها البلد رغم أنفها بيد هذا النظام.
لو كان من نظام منهار يمكن أن ينقذه حلفاؤه وأولياؤه، لكان بشار أولى الناس بهذا.. ما من نظام منهار في تلقاء نفسه يُمكن أن يعيش على أجهزة التنفس الصناعي الإقليمية والدولية.. وما تفعل الأجهزة في الجسد الميت أو السائر إلى الموت يقينا..
لهذا كله.. ما من مصري إلا ويرى محاولات كثيرة، أغلبها إن شاء الله محمود ومهم وله ثمرته.. وتلك فطرة في الشعوب كما هي فطرة في الأجساد.. إن الشعوب تقاوم قتلها كما يقاوم الجسد المرض.. وما من طاغية إلا بعث الله له مصلحا.. أو كما يقول العامة: ما من فرعون إلا وله موسى!
وهنا آتي للحديث عن Maydan – ميدان..
إن ألذّ لحظة عاشها المصريون وذاقوا حلاوتها وأنعشت فيهم الأمل الكبير كانت في (ميدان) التحرير..
وإن آلم لحظة عاشها المصريون وذاقوا قسوتها -ولولا سوء القيادة لكانت لحظة إسقاط حقيقية للنظام- هي تلك التي كانت في (ميدان) رابعة..
وإن أحوج ما تمناه المصريون بعد الانقلاب وبعد التمكن لنظام السيسي هذا أن تنزل المعارضة من منبر القول والتنديد والاستنكار إلى (ميدان) العمل والبناء والتدبير..
ومع أني حضرت الجلسة التي اتفق فيها على اسم (ميدان) فإني حين أتأمل الاسم الآن أرى أن التوفيق في اختياره كان أكبر مما خطر ببال المجتمعين حينها!
فكرة “ميدان” ببساطة
وفكرة ميدان بتبسيط شديد، ومخل أيضا.. كالآتي:
1. طبيعة النظام وتركيبته وسياسته ستقوده إلى الهاوية حتما..
2. الشعب المصري بما عنده من خصائص ذاتية وبما ينزل عليه من صعوبات واقعية لا بد أن ستأتي لحظة، إن لم يثر فيها بنفسه فسيكون رافعة لأي لحظة حراك وتغيير!
3. ومثلما يُخشى أن يُستبدل الرأس برأس.. فمن الواجب الديني الشرعي، وهو كذلك: الواجب الوطني القومي، أن يكون في لحظة التغيير تلك من يحول دون وقوع خدعة تاريخية أخرى!
4. ولأن مصر بلد مسلمة، وشعبها مسلم من أكثر الشعوب انتماءا للإسلام وارتباطا به، فإن طليعته دائما ستكون إسلامية.. تلك طبيعته الجينية التي لا يمكن إفراز غيرها.. ومهما قلبنا في التاريخ وفي الواقع فلن نجد لحظة ثورة أو تغيير إلا وكان الإسلاميون أبطالها ورجالها.. حتى لو أنهم أخفقوا بعد ذلك في حصاد ثمرتها!
5. وبهذا كان لا بد من تكوين نواة “إسلامية ثورية”، تكون بمثابة الطليعة القادرة على الوجود في لحظة التغيير الذي تندفع إليها البلد -بفعل النظام نفسه، وبطبيعة الشعب وجيله الجديد- لئلا تكون لحظة تاريخية أخرى ضائعة!
6. وهذا هو الواجب الشرعي تجاه أنفسنا، وتجاه البلد وأهلها: تحريرها من نظام قمع وطغيان فرط في البلد ونيلها وأصولها وآثارها، ومزق أهلها وقمعهم وأفقرهم وأذلهم، وهذا النظام هو بعد كل ذلك بمثابة الواجهة والخط الأول للهيمنة الصهيونية والصليبية.. فهو خارج عن الدين بميزن الدين، وهو خائن للوطن وللقومية بميزان الوطنية والقومية حتى بمعناهما العلماني النفعي البرجماتي!
7. ثم هو الواجب الشرعي تجاه إخواننا في كل البلاد: في غزة والسودان وليبيا والخليج والشام وتركيا.. بل إن تغير الحال في مصر يفيد كثيرا من المسلمين حتى في أدغال إفريقيا وآسيا وحتى الأقليات في أوروبا وأمريكا! فالمصريون يحملون عبء أنهم بلد كبير في موقع حساس ومهم.. فما أصابهم يصيب غيرهم، وما نفعهم ينفع غيرهم.
8. وهذه الحالة السائلة في البلد، وهذا التوقيت الذي يجمع الألم والأمل (ألم غزة وأمل انتصار الثورة السورية العظيمة.. وأمل وألم في السودان وغيرها) لا بد له من راية ترفع لتجمع حولها طلاب الحرية والتحرر والعدالة والكرامة!
فيلم تعريفي ونبذة عن الرموز
بالأمس نشرت “ميدان” فيلما يشرح باختصار فكرتها، وطرحت فيه باختصار بعض مشاريعها.. وبرز فيه عدد من رموزها..
بقي في هذا المنشور الذي طال أن أذكر نبذة عنهم:
1. الأستاذ Reda Fahmy، رئيس المكتب السياسي في ميدان، وهو رئيس لجنة الدفاع والأمن القومي في البرلمان المصري زمن الثورة، وكان قبل ذلك مسؤول ملف فلسطين في جماعة الإخوان المسلمين.. وهو رجل يتسع الكلام فيه وفي خبرته بما يطول، لكن يمكن للقارئ للتعرف عليه أكثر بالبحث عن لقاءاته في يوتيوب!
2. د. Yahia Mousa، وكان المتحدث الرسمي باسم وزارة الصحة في زمن الرئيس الشهيد محمد مرسي، وقبلها هو مدرس بجامعة الأزهر وقياديا في الحركة الطلابية الأزهرية!.. وهذا رجلٌ -لو ساعدته الأقدار- فهو جدير بمنصب رئيس الجمهورية، زاده الله من فضله.. وهو في الصف الأول ممن عرفتهم همة ودأبا ونشاطا وصبرا..
3. محمد منتصر (أغلق الفيسبوك حساباته)، المتحدث باسم الإخوان المسلمين بعد الانقلاب العسكري يوم أن اختارت الجماعة الطريق الثوري، قبل أن تنقلب على هذا الاختيار قياداتٌ فاشلة -إن لم نقل فيها أشدّ من ذلك، وهم جديرون بكل شديد- وهذا المنصب نفسه هو أبلغ تزكية له.. فالمتحدث باسم كيان في لحظة فدائية هو شرف بليغ.. ولتقريب الصورة للجيل الجديد، فمحمد منتصر كان بالنسبة إلى من تابع الحالة الثورية المصرية بعد الانقلاب، كأبي عبيدة لسان الحركة الخضراء الآن.. مع الفارق بين الحاليْن! فكان الشباب ينتظرون خروجه للاطمئنان على أن الحالة الثورية بخير وأنها لم تزل مستمرة!
وقد تفضل هؤلاء الكرام فجعلوني معهم، وقد علم الله أني أقلهم خبرة وتجربة وممارسة، بل ليس لي في سبيل العمل هذا إلا قلم ولسان، ولوددتُ أن لو كانت مواهبي فوق القلم واللسان إذن لكنتُ أنفع، ولكن التحاق الضعيف بالركب يرفعه على كل حال!
وكما قال الشاعر:
أسير خلف ركب القوم ذا عرج .. مؤملا جبر ما لاقيت من عوج
فإن لحقتُ بهم من بعد ما سبقوا .. فكم لرب العلا في الناس من فرج
وإن بقيت بقفر الأرض منقطعا .. فما على أعرج في ذاك من حرج
وتلك بذرة نلقيها في أرض مخصبة، والله يتولى الغرس والثمر..
{وما شهدنا إلا بما علمنا، وما كنا للغيب حافظين}